10-12-2014, 06:41 PM
|
#2
|
مشرفة القسم الاسلامي وقسم حرية الفكر وتطوير الذات
آل مره
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 10854
|
تاريخ التسجيل : May 2013
|
المشاركات :
2,914 [
+
] |
التقييم : 1076
|
الدولهـ
|
الجنس ~
|
SMS ~
|
|
لوني المفضل : Darkred
|
|
رد: منهج القرآن في إثبات عقيدة البعث بعد الموت
إثبات عقيدة البعث بعـد الموت
(تفسير موضوعي)
تأليف
د. منظور بن محمد محمد رمضان *
قسم الدراسات القرآنية
الكلية الجامعية
جامعة أم القرى مكة المكرمة
* درّس القرآن الكريم في الحرم الشريف بعد حصـوله على إجازة في تدريس القرآن الكريم وتجـويده من معهد دار الأرقم بن أبي الأرقم عام 1392 هـ، حصـل على الماجستير تخصص كتاب وسنة عام 1406 هـ، دكتوراه تخصص كتاب وسـنة عام 1415 هـ جامعة أم القرى، حاليا عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات القرآنية بكلية المعلمين جامعة أم القرى مكة المكرمة.
ملخص البحث:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
إن السعيد من صرف همته إلى القرآن الكريم تدبرا وفهما، ولقد دعانا القرآن الكريم إلى التدبر والاعتبار والتحصن به فهو مصدر فلاح العبد وفوزه في كل المجالات لأنه ينير لنا الطريق ويهدينا إلى أقوم طريق وأهدى سبيل، وإن البحث والتفكر فيما يدعونا إليه القرآن الكريم مما فيه سعادتنا الأبدية يعد من التذكر والتدبر، لا سيما في عصر السرعة التي تشابكت فيه الأقطار وتقلصت فيه المسافات وتسربت الحضارات والتبس الحق بالباطل، وانتشرت فيه الدعوات إلى المذاهب الباطلة والأفكار الهدامة، وظهرت في المجتمعات أمورا لا سابقة لها، فكان لا بد لعلماء الإسلام من وقفة صادقة جادة في وجه هذه الأفكار والمذاهب لمقاومتها وإيجاد الحلول المناسبة بصورة عاجلة ومختصرة .
وإن بحث: (منهج القرآن في إثبات عقيدة البعث بعد الموت) تفسير موضوعي، وهـو فن مبتكر جديد- وما أحوجنا إلى بحوث مؤصلة بالكتاب والسنة- تطرق لأمر هام يعد من أبرز موضوعات الساحة على حين أنه لم يبق دليل أو آية إلا وأخبرتنا على صدق موعود الله حسا وعقلا، ولعل منكري الأوائل لم تتضح لهم صورة إمكان البعث بعد الموت بمثل ما اتضحت في العصر الحديث مما يُشاهد عيانا في الكون من الآيات والدلائل التي تدعو إلى الإيمان بالبعث بعد الموت ضرورة ووجوبا، ولأجل هذا محاولة من الباحثين في استخراج مكنونات الكتاب العزيز فقد حصر البحث جهده في ذكر الأدلة النقلية والعقلية على إثبات البعث بعد الموت بأسلوب مبتكر يلائم روح العصر، وانصبت الأفكار على الرد على منكريه عقلا ونقلا، عل ذلك يدعـوهم إلى الإيمان بالله وبالبعث بعد الموت.
كما أنه يُذكّر المسلم بهذا اليوم الذي يحاسب الله فيه العباد على كل صغـيرة وكبيرة، عل ذلك يدعوه على الاستقامة على الطريقة
فمن هذه الزاوية فهو يعد بحثا أصيلا من حيث الجمع والتنسيق والشرح والبيان، عدا أنه يستمد معارفه من البحر الرباني القرآن الكريم. وبالله التوفيق والسداد.
مـقـدمـة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
إن أول ما دعى إليه الأنبياء والرسل هو توحيد الله تعالى، ومن أوائل ما اجتهدوا في إحكامه وتشييده هي العقيدة، قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل 36).لأنها الأساس الذي ترتكز عليه دعائم التشريعات الإلهية وميزان الأعمال قبـولا وردا، فإذا رسخت العقيدة في نفس المسلم تلاها الإيمان بمبدأ البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال الذي هو أحد أركان الإيمان وقوام عقيدة المؤمن.
وإنّ الإيمان بمبدأ البعث بعد الموت تمهيد لبناء مجتمع يلتزم في حياته شرع الله في كل شؤون حياته، قال الله تعالى {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله…..} (التوبة 18). فقد حصر الله تعالى هذه الأعمال فيمن آمن بالله وباليوم الآخر.
ولقد كان من أوائل التكاليف الإلهية في القرآن الكريم هو الإيمان بالبعث، يقول الله تعالى في مطلع أول سور القرآن الكريم: {مالك يوم الدين ..} (الفاتحة) وفي ثاني سور القرآن الكريم: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.(البقرة 3، 4).
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه : كان النبي صل الله عليه وسلم بارزا يوما للناس، فأتاه رجل فقال: (ما الإيمان؟، قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث...) [1].
لذا فقد اتفقت جميع الرسالات السماوية على الإيمان بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال، ومِن ثَم فإنّ هذه القضية كانت من أولى اهتمامات القرآن الكريم، واعتنى بها عناية بالغة في آيات كثيرة.
أهمية البحث:
تظهر أهمية البحث وثمـرته من حيث استمداده وموضوعه ومنهجه، ومن حيث صلته بالمجتمع وحاجتهم إليه ومدى تحقيقه للأهداف والنتائج والغايات المرجوة من ورائـه.
وإنّ موضوع (منهـج القرآن الكريم في إثبات عقيدة البعث بعد الموت) من أهم الموضوعات؛ لكونه يتصل بكتاب الله تعالى الذي أنزله الله هدى ورحمة للعالمين ولسعادة البشر في الدارين، ثم هو أيضا سبب موصل لفهم كلام الله لما في شرح وبيان مثل هذا الموضوع مِن حث وتدبر على فهم كلام الله والإيمان به وربط الناس بواقع حياتهم العلمية والعملية.
كما أنّ هذا الموضوع الذي أعالجه جمعا ودراسة وشرحا وبيانا يشكل قاعدة أساسية لتقويم الإنسان في هذه الحياة لارتباط مصيره به، ونحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه الموضوعات، لا سيما في زمن فسد فيه معتقد كـثير من الناس وتبلبلت أفكارهم حول قضية البعث بعد الموت، بل لم يقتصر الإنكار على البشر فحسب بل عم هذا الشعور الجن كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} (الجن 7).
(عوامل إنكار البعث بعد الموت)
إن قضية المعاد والبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال قضية حساسة وفي بالغ الخطورة لأنها تحدد مصير الإنسان في دنياه قبل آخرته ويتوقف عليها إما سعادة أبدية أو شقاوة أبدية.
ولأهمية ذلك فإن الله تعالى- لطفا بعباده ورحمة بهم- وضحها في كتابه العزيز غاية الوضوح وبينها بيانا شافيا كافيا بأدلة نقلية وعقلية فيها مَقنَع لذي حِجر، ولكن مع ذلك لا يزال في الناس- إما جهلا أو جحودا ومكابرة- من يلتبس عليه الأمر فيحتاج إلى التوضيح والبيان.
وإن من خلال التتبع والقراءة العميقة والتدبر يتضح أن إنكار البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال ينصب على معنيين:
أولا: بمـعـنى التغافل عنه وذلك بعدم استحضار الإيقان به أو استهتارا بشأنه بعدم مراقبة الله المطلع على سرائر عباده وضمائرهم، كحال بعض المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام ممن لا يعرفون للإسلام حدا أو للأوامر والنواهي معنى.
فما حصل أو يحصل من التعديات في النفس والمال والعرض وهضـم للحقوق وإهمال للواجبات إلا من جراء تغافل الناس عن مبدأ البعث بعد الموت إن لم يكن تكذيبا به وإنكارا، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في سورة كاملة مبينا آثار التكذيب بيوم الدين فقال تعالى: {أرأيت الذي يُكذب بالدين، فذلك الذي يَدُعُّ اليتيم، ولا يحُض على طعام المسكين، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يُرآؤن ويمنعون الماعون}.(الماعون).وقال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسِرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} (المطففين ). ومؤدى كل هذه العوامل هو عدم الاستعداد بالعمل لهذا اليوم العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ثانــيا: بمعنى بإنكاره كليا وعدم الإيمان أو الإيقان بوجود يوم يحاسب الله تعالى فيه العباد ويجازي كلاً بما قدم من الأعمال، وذلك كحال المجتمعات الوثنية الكافرة على مختلف مِلَلِها ونِحَلِها، وهو ما نحن بصدد ذكره وبيانه في هذا البحث.
وإن مما يعجب له في هذا الموضع أن إبليس- على كفره وتكبر- أقر بالبعث وأتباعه من الكفرة أنكروه، قال تعالى حكاية عنه: {قال أنظرني إلى يوم يُبعثون} (الأعراف 14) وقال تعالى: {قال رب فأنظرني إلى يوم يُبعثون} (الحجر 36)
ولهذا النوع من إنكار البعث بعد الموت عوامل وأسباب عديدة أحاول تلخيص بعض هذه الأسباب والعوامل وشرحها وبيانها:
فمن عوامل إنكار البعث بعد الموت وأسبابه:
الترف والبطر والغرق في الشهوات حتى تنقلب الموازين وتنعكس المقاييس فتُنسّي الحِكَم الإلهية والإرادات الربانية في هذا الكون كما حكى الله تعالى عن أصحاب الجنة: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعـة قائمـة ولئن رددت إلى ربي لأجـدن خـيرا منـها منقلبا} الكـهف (35، 36).وكما قال تعالى: {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى فلننبأن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ} (فصلت 50) وقال تعالى: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل مِن يَحْمُوم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا فبل ذلك مُتْرَفين وكانوا يُصِرّون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أإذ متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون} (الواقعة 41- 48).
وقال تعالى عن مترفي الأمم السالفة عندما توالت عليهم نعم الله فاغتروا بها فكانت مدعاة للتكذيب برسل الله وبالبعث بعد الموت قال تعالى: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين} (المؤمنون 33- 38).
وإن من أسباب إنكار البعث بعد الموت: الكـبر والغرور وهو من مساوي النفس وأخلاقها الذميمة حيث يعمي البصر والبصير فيدفع بصاحبه إلى الإعجاب بالنفس وبطر الحق والكفر بالله تعالى وبنعمه، وقد حرمه الإسلام أشد تحريم؛ لأنه من أعظم أسباب الهلاك في الحال والمآل، ومن أكـبر العوائق عن طلب الكمال والبحث عن الحقائق والبينات، وحجاب مانع لوصول الهداية لكنه يجلب مقت الله، فكم من نعمة انقلبت نقمة وكم من عز وكرامة وقوة صـيراه ذلا وضعفا وهوانا، قال تعـالى: {كذلك يطـبع الله على كل قلبِ متكبر جبار} (غافر 35) وقال تعاليى : {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} (الأعراف 146).وقال تعالى: {وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين، وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين} (العنكبوت 38، 39). وقال تعالى: {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون} (القصص 39)
وبسبب الكبر طرد إبليس من رحمة الله، قال تعال: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك مـن الصاغـرين} (الأعـراف 13).وقال تعاليى: {إلا إبليـس اسكتـبر وكان من الكافـرين} (ص 74).ومستقر الكافرين المتكبرين النار قال تعالى: {أليـس في جهنم مثوى للمتكبرين} (الزمر 60)
وإن من أسباب إنكار البعث بعد الموت: النفاق مع أن المنافق قد يظهر لـه شيء من الحق والحقيقة لكونه يخالط المسلمين ويسمع ويرى منهم ما يكون سببا للتصديق لكنه مع ذلك يصر على التكذيب فهو مِن هنا أشد مؤاخذة من الكافر الذي قد يجهل الأمر، قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} (البقرة 8)
وما أكثر النفاق والمنافقين اليوم على اختلاف أشكالهم وألوانهم وما أشد ضررهم على الإسلام والمسلمين، وما يُرى ويُشاهد من بعضهم من تشويه صورة الإسلام قولا أو فعلا أو توجيه الألقاب النابية إليه وإلى المسلمين، أو المؤامرات والتجسس لهدمه، إنما هو لأجل التشويش والتلبيس على الناس في معرفة حقيقة البعث بعد الموت، تنفيذا لما طبعوا عليه من الشر والفساد، قال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} (البقرة 13)
وإن من أسباب إنكار البعث بعد الموت: الجهل والتقليد الأعمى دون بصيرة أو علم وتثبت رغم فشو العلم وتعدد وسائله وسهولة الوصول إليها وظهور الآيات الدالة على صدق نبوة النبي صل الله عليه وسلم ورسالته وبصدق ما جاء به من عند الله، قال تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} (البقرة 170) وقال تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} (لقمان 21) وقال تعالى: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكُبراءنا فأضلونا السبيلا} (الأحزاب 66) وقال تعالى: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقا الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونَجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} (سبأ 31)
مع أن الله تعالى- بلطفه وكرمه- قد منح الإنسان وسائل الفهم والإدراك والاستبصار وجعله أهلا للتمـييز بين الحق والباطل والخير والشر والخطأ من الصـواب، قال تعالى: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها} (الشمس 7) وقال تعالى: {وهـديناه النجـدين} (البلد 10) وقال تعالى: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سمعيا بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} (الدهر 2) وقال تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} (القيامة 14، 15).وقال تعالى : {والذي قدر فهدى} (الأعلى 3). وقال تعالى: {ولقد جاءهم من ربهم الهدى، أم للإنسان ما تمنى} (النجم 23، 24).
ولكن لما عُطّلت أدوات الفهم والاستبصار واستُخدمت في غير ما أمر الله تعالى وقعوا فيما وقعوا فيه، قال تعالى حكاية عن أهل النار: {قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} (الملك 9)
وقد عم هذا البلاء جميع أهل الكفر حتى أهل الكتاب رغم بقايا ما عندهم من علم لانحراف علمائهم مؤاثرة لشهواتهم وأغراضهم النفسية واستعبادا لشعوبهم وأممهم بإضلالهم حتى رسخوا في أذهان شعوبهم أن رجال الدين - على حد تعبيرهم- يتكفلون لهم المغفرة والجنة ويتحملون عنهم أعباء الآخرة، فساقهم ذلك إلى القول بأن الحياة حركة لا هدف لها وغايـة لا حكمة من ورائها وللبِيَع أناس والبارات ودور البغاء أناس، إنما هي أرحام تدفع وقبور تبلع، وبين هاتين لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد.
وإن من أسباب إنكار البعث بعد الموت: ظهور عبّاد المادة وتعدد الملل وانتشار الملحدين في المجتمعات البشرية ممن يزعمون العلم والفهم وهم في الحقيقة معاول لهدم الإنسانية لطمسهم في الناس معالم الحق رغم تطور العلم وظهور الآيات التي أثبتت وجوب البعث بعد الموت بما يشاهد يوما بعد يوم من الآيات والدلائل الدالة على وجـوبه، كما قال تعالى: {سـنريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتـبين لهم أنهُ الحق…} (فصلت 53).
فلم ترفع كثير من الأمم رأسها لهذا الحق، بما ينادى من أن التوجه إلى الذات الإلهية يكون إما لجلب مصلحة أو لدفع ضر، وقد أغـنى العلم الحديث والتطور البشري في أكثر المجالات عن الإله وعن العقيدة والتدين، وأن الإنسان في عصر الذرة وغزو الفضاء فلم يصبح في حاجة إلى مدبر ومسير لأمر الكون، وأن الإنسان قد أصبح بالتقدم العلمي والحضاري والإحكام الصناعي كفيل نفسه، فأخذوا ينادون باستغناء الإنسان عن الرسل والرسالات وعن العقــيدة فضـلا عن الإيمان باليوم الآخــر: {والذين يسعون في آيتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون} (سبأ 38).
وإن من أسباب إنكار البعث بعد الموت: نِسبة تأثير الطبيعة في الكون، فقد ظهر على مختلف العصور والأزمان طبيعيون ينسبون الحوادث إلى الطبيعة، أو يقولون بتأثير الطبيعة في هذا الكون، وفي نظرهم أن كلما يحدث حادث أو انقلاب في الكون فإنه من تأثير الطبيعة، إنما هو كون ونظام مُسَيَّرٌ دون مسَيرٍِّ ووقت مؤقت ينتهي إليه فإذا كان الأمر كذلك فلا بعث ولا نشور ولا حساب ولا عقاب ولا جزاء على الأعمال إذا.
وهذا القول مشابه لقول الاشتراكيين اللا دينيين بينهم عموم وخصوص، قال تعالى حكاية عنهم: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الـدنيا نمـوت ونحـيا وما يُهلكنا إلا الدهــر ومالهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} (الجاثية 23)
ولعل الطبيعيين أو الدهريين الأوائل قالوه عن شيء من الجهل وعدم الإيقان أو بضرب من التخمين والحدس، غير أن طبيعي هذا الزمان قالوه عن عمد وقصد عنادا واستكبارا- فقد كُشِف الأمر وزال شيء من الحجاب وكشفت بعض المُغَيبات- لغرض صرف الناس عن الحقائق وزعزعة أفكارهم وإيقاعهم في دوّامة الشكوك والرِيَب لئلا يرفعوا رأسا للبحث عن طريق الحق، وهذا حال كثير من الغربيين فإنهم مع وقوفهم على كثير من حقائق الكون وأسراره وإيقانهم ببطلان تأثير الطبيعة فيه من خلال التجارب والنظريات التي تحتم عليهم الاعتراف بالحق والنطق بالصدق، فلا يزالون يتصورون هذا التصور الزائف الذي يستهجنه عقل عادي فضلا عن عقل عقيل.
ويلزم هؤلاء القائلين: تحديد ماهية الطبيعة في نظرهم ؟ .
ثم هل الطبيعة قوة قاهرة أم مقهورة ؟.
وأيهما أقوى الطبيعة أم المطبوع ؟.
وقد قيل: إن الطبع يغلب التطبع فإن كانت الطبيعة لها تأثير فلماذا يحصل في مكان دون آخر مع توفر الأسباب والظروف ؟.
فإن قضت الطبيعة أن الفرخ من البيضة فلماذا تفسد البيضة ؟ وإذا قضت الطبيعة أن تراكم الغيوم ووجود الرعد والبرق مُؤْذِنٌ بالغيث فلم يتخلّف بعض ذلك وغير ذلك مما هو معلوم في هذا الكون من الخروج عن المألوف والنظام !.
وما ذاك إلا ليعرف الناس ويوقنوا أن هذا الكون مِلْكٌ لله تعالى ملكا وتصرفا فهو يتصرف فيه كيف يشاء ويُخضع الكائنات لنظام الكون تارة ويأمرها أخرى بالخروج عنه، وصدق الله حيث يقول عن نفسه: {تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغـير حساب} (آل عمران 27)
فإذا كانت الطبيعة- في نظرهم- قوة قاهرة فكيف للمقهور أن يخرج عن هذه السيطرة ؟.
فإذاً وجب القول بضعف الطبيعة وبخضوع هذا الكون لحكم الله مِلكا ومُلكا وتصرفا وبطل القول بتأثير الطبيعة فيه ووجب تكفير من يقول به إن كان عامدا، ومع الأسف فقد وجد في المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام من يقول بهذا القول.
فإما بسبب ما لُقّن في مراحل التعليم من هذه الكلمات النابية.
أو جهلا منه بفساد هذا الرأي وفظاعة هذا القول أو أنه التقليد والعمى دون بصيرة وبرهان.
وإن من أسباب إنكار البعث بعد الموت: الإغراق في الاغتفال والالتهاء، بحيث ينشغل الإنسان بسفاسف الأمور وزائفها ويعطيها حظا وافرا من الأهمية حتى يجعلها من أوليات همومه وأمانيه، ويقدمها إلى أن تبقى هي محط نظره وفكره ومحور حياته، مع أن ظاهر الحياة محدود صغير مهما بدا للناس واسعا شاملا يستغرق جهودهم بعضه ولا يستقصونه في حياتهم المحدود، فإن لم يتصل قلب المرء بحقيقة وجوده فإنه كما يقول سيد قطب: يظل ينظر وكأنه لا يرى ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائر ولكنه لا يدرك حكمته وأكثر الناس كذلك.
ولا شك أن الغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم، فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا، قال تعالى: {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} (الروم 8) دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان وحقيقة هذه الإنساية الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته وقيمه وتصوراته ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعا وعن وِحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعا ووِحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعا، …والقرآن الكريم يدعو المكذبين أن يتدبروا العواقب وأن يدركوا أن سنة الله واحدة [2] .
وإن من أسباب إنكار البعث بعد الموت: العناد والاستهانة مما يجعل الإنسان يتطاول فيطلب أمورا إما خارجة عن طوق البشر أو لا علاقة لها بالحال والواقع أو يبتغي قياسا بمقيس يعد في نظر المعتاد قاصرا أو فاسدا كالطعام والشراب واللباس.
وهذا إنما هو نابع إما عن جهل بالحقائق أو عن قصر بصيرة أو استدبار لعواقب الأمور أو إغترار بالفاني من الزاد والمتاع، قال تعالى: {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملكٌ فيكونَ معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكونُ لـه جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} (الفرقان 7)
تغافلوا عن الأهم إلى ما لا قيمة له أصلا لذا قال الله تعالى عقب ذلك مضربا عن توبيخهم وزجرهم عما حكاه من الكلام الذي خرج عن دائرة العقل ولا يصدر عن العقلاء فقال: {بل كذبوا بالساعة } (الفرقان 11) ليس الأمر كما زعموا بل الحامل لهم على هذا الاعتراض والاستكبار إنما هو التكذيب بالساعة ولهذا فهم لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها.
وأكد سبحانه وتعالى مقالتهم الشنيعة هذه بقوله: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عُتوّا كبيرا…} (الفرقان 21) أي: تجاوزوا الحد في الكبر والطغيان إلى أقصى غاياته.
قال الألوسي: وفي طلب إنزال الملائكة للتصديق دون إنزال ملك إشارة إلى أنهم بلغوا في التكذيب مبلغا لا ينفع معه تصديق ملك واحد [3]
وقال الشوكاني: لقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغا هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله أو تعد من المستعدّين له، وهكذا من جهل قدر نفسه ولم يقف عند حده، ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى [4] ولا زال هذا شأن الأمم المتعاقبة بعد أمة الأوثان يطلبون من سقط المتاع ويقيسون بمقياسهم وعليه يبنون نظرياتهم وإليها يرجعون ويحتكمون وحولها يحومون ويدندنون [5].
لذا كان لهـذا الموضوع أهميـته وحاجته الملحة [6].

|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|