حتَّى إنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان لا يرفع قدَمًا، ولا يضعها، إلاَّ على الحجارة، وسالت الدِّماء من قدَميْه الشريفتين، وشجَّ رأس سيدنا زيد بن حارثة - رضي الله عنه - الذي حاول الدِّفاع عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وألْجأ السُّفهاءُ والصبيانُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى بستانٍ لعُتبة وشيبة ابنَيْ ربيعة، ولم يَجِد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدما جلس والدماء تَنْزف من قدميه الشريفتين الكريمتين المباركتين، إلاَّ أن يتوجه إلى ربِّه، وراح النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتذكر أصحابَه الذين يُجلَدون ويُعذَّبون في مكة، وتذكَّر خديجة، وتذكَّر أبا طالب، فلم يجد بُدًّا من أن يرفع هذه الشَّكوى إلى الله.
ولكن يا ترى بِم سيدعو النبِيُّ على الطائف؟ على الذين طاردوه وسبُّوه، وأدمَوْا قدميه بالحجارة؟ لنستمع سويًّا إلى دعاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي قال فيه: ((اللَّهمَّ إليك أشكو ضَعْف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، يا أرحم الرَّاحمين، أنتَ ربُّ المستضعفين وأنت ربِّي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الَّذي أشرقَتْ له الظُّلمات، وصلحَ عليه أمر الدُّنيا والآخرة مِن أن تُنْزِل بي غضبك، أو يحلَّ عليَّ سخطك، لك العُتْبَى حتَّى ترضى، ولا حول ولا قوَّة إلا بك)).
أسَمِعتم إلى دعاء الذي وصَفَه ربُّه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]؟ لَم يطلب من الله أن ينتقم منهم، وأن يسيل دماءهم، وألا يُبقي على أرض الطائف من الكافرين ديَّارًا، بل لَم نسمع كلمة ذمٍّ واحدة على الذين طاردوه وسبُّوه وأدموا قدميه بالحجارة؟ كان كلُّ هَمِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في تلك اللَّحظة هو ألا يكون قد غضب الله عليه؟
رِضَاكَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا 
يَا مَالِكَ النَّفْسِ قَاصِيهَا وَدَانِيهَا 
فَلَيْسَ لِلنَّفْسِ آمَالٌ تُحَقِّقُهَا 
سِوَى رِضَاكَ فَذَا أَقْصَى أَمَانِيهَا 
فَنَظْرَةٌ مِنْكَ يَا سُؤْلِي وَيَا أَمَلِي 
خَيْرٌ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا 
فلَمَّا رآه ابْنا رَبيعَةَ؛ عُتْبَةُ وشَيْبَةُ، وكانا من ألَدِّ أعداء الإسلام، ومِمَّن مشَوْا إلى أبي طالب عمِّ النبي من أشراف قريش، يَسألونه أن يكفَّه عنهم، أو يُخلِّي بينه وبينهم، حتى يهلك أحد الفريقين، ولكن في هذا المشهد انقلبت الغريزة الوحشيَّة إلى الشفقة والتراحم.
فدَعَوا غلامًا لهما نصرانيًّا، يُقال له: عدَّاسٌ، فقالا له: خُذْ قطفًا من هذا العنب، فضَعْه في هذا الطَّبق، ثُمَّ اذهب به إلى ذلك الرَّجل، فقل له يأكل منه، ففعَلَ عدَّاس ثُمَّ أقبل به، حتَّى وضعه بين يدي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثمَّ قال له: كل، فلمَّا وضعَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيه يدَه، قال: ((باسم الله))، ثُمَّ أكل، فنظر عدَّاسٌ في وجهه، ثمَّ قال: والله إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومِن أهل أيِّ البلاد أنت يا عدَّاس، وما دينك؟)) قال: نصرانيٌّ، وأنا رجلٌ من أهل نِينَوَى، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من قرية الرَّجل الصَّالح يونس بن متَّى))، فقال له عدَّاسٌ: وما يدريك ما يونس بن متَّى؟ فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبيٌّ))، فأكبَّ عدَّاسٌ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقبِّل رأسه ويديه وقدميه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمَّا غلامك فقد أفسدَه عليك، فلمَّا جاءهما عدَّاسٌ قالا له: ويلك يا عدَّاس! ما لكَ تُقبِّل رأس هذا الرَّجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيِّدي ما في الأرض شيءٌ خيرٌ من هذا، لقد أخبَرَني بأمرٍ ما يعلمه إلاَّ نبيٌّ، قالا له: ويحك يا عدَّاس! لا يَصْرفنَّك عن دينِك؛ فإنَّ دينك خيرٌ من دينه.
ويشهد عدَّاس للنبيِّ بالرسالة، ويَدْخل في دين الإسلام، حقًّا: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]!
إنَّ في إسلام عَدّاس مواساةً للنبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلَئِن آذاه قومُه، فهذا من العراق من نينوى يقبِّل يديه ورجليه، ويَشهد له بالرسالة ويُسْلِم، وكأنَّه يعتذر عن إيذاء أولئك السُّفهاء، فبعد الصدِّ والإعراض من قومه، يأتي مَن يؤمن به - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن تلك البلاد البعيدة.
ثُم يعود النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى مكَّة بعد أن استَقْبل تلك المِحَن راضِيًا، وتجرَّع الشدائد صابرًا محتسِبًا، وعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّها قالت للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحُدٍ؟ قال: ((لقَد لقيتُ من قومِك، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يوم العقبة، إذْ عرَضْتُ نفسي على ابن عبد ياليلَ بن عبد كلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلاَّ وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل - عليه السَّلام - فناداني، فقال: إنَّ الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملكُ الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَكُ الجبال، وقد بعثني ربِّي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؛ إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبَيْن))، فقال النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئًا))؛ متفقٌ عليه.
والله! لو كان رسول الله ممن ينتقم لذاته، وممن ينتقم لِقَطرات دمٍ نزفت منه، ومِمَّن ينتقم لمكانته، وممن ينتقم لشخصيته؛ لأمَر ملك الجبال أن يحطم تلك الرُّؤوس، وأن يُهَدهِد تلك الجماجم؛ لتسيل الدِّماء من الطائف فيراها أهلُ مكَّة بمكة، ولكنه نَهْر الرحمة، وينبوع الحنان، إنَّه الرحمة المهداة، والنِّعمة المسداة، الذي ما خرج إليهم إلاَّ وهو يعلم يقينًا أنَّ هذه الأصلاب تحمل ربيعًا قادمًا، وتحمل أمَلاً يُشرِق كالفجر، ويتحرَّك كالنَّسيم؛ ولذا قال الحبيب - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -: ((لا، إنَّما أرجو الله أن يُخرج من أصلابهم مَن يوحِّد الله - عزَّ وجلَّ)).
إنَّ رحلة الطائف، رغم ما فيها من أحداث مؤلِمة، تركَتْ لنا دروسًا هامَّة، ينبغي على المسلم الوقوفُ معها والعمل بها؛ لِيَسعد في الدُّنيا والآخرة، إن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخاطبكم من خلال رحلة الطائف، ويقول لكم: يا مسلمون:
إن أردتم العون والنَّصر والفرَجَ مِن الله، فسيروا على ما سرتُ عليه، اصبروا على البلاء والمصائب كما صبرتُ في رحلة الطائف، اثبتوا على الطاعة كما ثبَتُّ في رحلة الطائف، تَمسَّكوا بدينكم وعقيدتكم كما تمسَّكت في رحلة الطائف، ضَحُّوا ولو بالشيء القليل كما ضحيت بالغالي والنفيس في رحلة الطائف.
فأين المسلم الَّذي يقتدي برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أقول قولي هذا وأستغفر الله.